نكبة فلسطين في أدبنا القوميّ | أرشيف

 

المصدر: «مجلّة الآداب».

الكاتب (ة): كامل السوافيري.

زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1958.

 


 

نريد بالقوميّة العربيّة ذلك الشعور الموحّد الّذي يجمع الأمّة العربيّة الواحدة، الّتي تسكن الوطن العربيّ الممتدّ ما بين حدود إيران، والخليج الفارسيّ شرقًا، والمحيط الأطلسيّ غربًا، وما بين تركيا والبحر الأبيض المتوسّط شمالًا، والصحراء الأفريقيّة الكبرى والحبشة والمحيط الهنديّ جنوبًا، الّتي تربط بين أبنائها إلى جانب اللغة العربيّة روابط التاريخ والبيئة الجغرافيّة والمصالح المشتركة والدّين.

نريد بالنثر الخطبة والمقال والقصّة والمسرحيّة الّتي يتناول كلّ منها القوميّة العربيّة، وهذه الكلمة مقصورة على الخطبة والمقالة والكتاب.

 

بدايات القوميّة في النثر

قد ظهرت الاتّجاهات القوميّة في النثر منذ بداية القرن التاسع عشر، حين شعّت على دنيا العرب أضواء النهضة الحديثة، الّتي انعكست في أدب الكتّاب الّذين أخذوا يحاربون الطغيان، ويدعون إلى التحرّر من النير الأجنبيّ، ويهيبون بالشعوب العربيّة أن تستيقظ وتستعيد ماضيها الزاهر ومجدها الماضي.

لم يكن الكتّاب والخطباء ينتمون إلى إقليم بعينه أو قطر بذاته، لكنّهم كانوا يمثّلون الأمّة العربيّة كلّها؛ ففيهم المصريّ والشاميّ والعراقيّ والحجازيّ، لكنّ الهدف الّذي كانوا يرمون إليه كان هدفًا واحدًا وغاية واحدة، وهي التحرّر من كلّ عبوديّة، والدعوة الصادقة إلى البعث القوميّ واليقظة العربيّة، وقد أشرع الكتّاب أقلامهم وسخّر المفكّرون إنتاجهم لليقظة والبعث والتحرّر.

وكما عبّر العرب عن آلام أمّتهم وأيقظوا وعيها، عبّر الكتّاب والمفكّرون عنها أيضًا، وهكذا لم يتخلّف النثر عن الشعر في هذا المضمار، بل سارا معًا جنبًا إلى جنب في تحقيق غاية واحدة، فترى في مصر الأفغانيّ، ومحمّد عبده، ولطيف السيّد، وقاسم أمين، وسعد زغلول، ومصطفى كامل، إلى جوار شوقي وحافظ ومحرّم. وترى في الشام الكواكبيّ، وأديب إسحق، وشكيب أرسلان، إلى جانب أبي ريشة والعطّار وشفيق جبري. وفي فلسطين سعيد الكرميّ والنشاشيبيّ والنبهانيّ ورفيق التميميّ، إلى جانب طوقان وأبي سلمى، ومثل ذلك في العراق الّذي وقف كتّابه إلى جوار الرصافيّ والزهاويّ والجواهريّ والكاظميّ.

لا يسمح المقام لنا أن نورد الشوارد ونزجي الأمثلة، لكنّنا نكتفي بشاهدين يؤيّدان ما ذهبنا إليه.

يقول المغفور له مصطفى كامل في إحدى خطبه: "اذكروا مصر؛ فإنّ من ذكراها ذكرى آلامها، وذكرى الآلام تجرّ حتمًا إلى ذِكْر عوامل الشقاء. اذكروها كما يذكر الولد الحنون أمّه الشقيقة وهي على سرير المرض. اذكروها؛ فمن المستحيل أن يرى العاقل النار في داره، والداء في شخص أمّه، ويهمل النار ويهمل الداء، ومن المستحيل كذلك أن يكون الوطن في خطر ونحن نيام، وأن يعمل الأجنبيّ لامتلاك بلادنا وسلب حياتنا، بل لاستعبادنا واسترقاقنا، ونحن هامدون لا عمل ولا حراك".

وقال المرحوم إسعاف النشاشيبي: "اللغة هي الأمّة والأمّة هي اللغة، وضعف الأولى ضعف الثانية، وهلاك الثانية هلاك الأولى، واللغات ميراث أورثه الآباء والأبناء، وأحزم الورّاث صائن ما ورث، وأسفههم في الدنيا مضيّع، وإنّا أمم اللسان الضادّيّ العربيّ، وإنّ لغتنا لهي العربيّة، وهي الإرث الّذي ورثناه – وإنّا لحقيقون بهِ – والآباء هم الآباء، واللغة هي اللغة، بأن تبقى عروبة الجنس وعربيّة اللغة".

 

دور الكتّاب في النهضة القوميّة

رافق الكتّاب النهضة القوميّة الحديثة، فأجّجوا نارها أوّلًا بما أشعلوه في نفوس الأمّة من حماس وطنيّ بخطبهم ومقالاتهم الناريّة، الّتي ألهبت القلوب وأجّجت الصدور، ولعلّ هذه المرحلة الأولى الّتي وقف فيها النثر يوقظ الوعي، وينبّه الشعور؛ فلمّا استيقظ الوعي وتنبّه الوجدان انتقل النثر إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة دفع الأمّة إلى العمل، وإطلاقها إلى البعث، وثورتها على الظلم والطغيان.

ولولا سحر الكلمة الأدبيّة – مقروءة أو مسموعة – ما وجدنا الألوف من أبناء الأمّة العربيّة، في مصر والشام والعراق وفلسطين، يجودون بدمائهم الزكيّة، ويقدّمون أرواحهم الطاهرة قربانًا للتحرّر القوميّ، وثمنًا للاستقلال السياسيّ، وتخلّصًا من قيود الغلّ والاستعباد.

ثمّ بدأت المرحلة الثانية للنثر، حينما خاضت الأمّة معركة الحرّيّة ضدّ الاستعمار بألوانه وأشكاله المقنّعة والظاهرة؛ فانتصرت عليه، وأخذت تجني ثمار هذا النصر المؤزّر، فتصلح الفاسد من الأنظمة، وترفع مستوى طبقات أبنائها، وتحرّر النفوس من الخوف والقلق. وأخذ النثر يسير في هذه المرحلة الجديدة يصوّر الأوضاع الاجتماعيّة، ويعالج الأمراض المتفشّية، ويدعو إلى حياة أفضل وأسمى يتمتّع فيها كلّ فرد من أفراد الأمّة العربيّة بالحرّيّة والسيادة والرفاهية.

امتدّت نهضة النثر في العصر الحديث إلى اليوم، ووجدنا كتّابًا أفذاذًا يوجّهون صرخاتهم في دنيا العرب، داعين إلى وحدة الصفّ واتّحاد الرأي وجمع الكلمة. وقد كثر عدد هؤلاء الكتّاب؛ فلم يقف بهم الأمر عند حدّ المقالة، ولكنّهم اتّجهوا في مناصرة القوميّة العربيّة إلى إنشاء البحوث وتأليف الكتب، الّتي وصل عددها إلى عشرات، وفي مقدّمتها كتب الأستاذ ساطع الحصريّ، وعلي ناصر الدين، وزريق.

وكانت نكبة العرب القوميّة في فلسطين ينبوعًا تفجّرت منه عواطف الكتّاب والأدباء، ووحيًا وإلهامًا للشعراء، وموضوعًا للتأليف المستمرّ في الأسباب والنتائج والعلاج.

ولن يتسنّى لنا أن نوضّح كلّ الجوانب، ولكنّنا سنشير إشارات سريعة إلى الكتب الّتي ظهرت بعد النكبة في الناحية السياسيّة المتّصلة بالقوميّة العربيّة أوثق اتّصال، فنذكر منها: «معنى النكبة» للأستاذ قسطنطين زريق، و«عبر فلسطين» للأستاذ موسى العلمي، «من وحي فلسطين» للأستاذ أحمد رمزي، «بعد النكبة» للأستاذ قدري طوقان.

أمّا الخطب والمقالات فلا تقع تحت الحصر، لكنّ العدل يقتضينا أن نذكر كاتبًا واحدًا نشر ما يزيد على 20 مقالًا في القوميّة العربيّة، وفي الدعوة إلى وحدة العرب وتضامنهم، ونبذ كلّ فرقة بينهم، وهو المرحوم الأستاذ نقولا حدّاد، ولمّا لم يجد في حياته صدًى لكتابته حطّم القلم، وفي نفسه لوعة وحسرة.

 

المقالة القوميّة

لا نستطيع أن نسرد أسماء كلّ الكتّاب الّذين تشعّ القوميّة العربيّة في مقالاتهم، وتلمح الإيمان القوميّ في تفكيرهم؛ لأنّهم كثر من ناحية، ولأنّهم يمثّلون أجزاء الوطن العربيّ الكبير من ناحية أخرى. لكنّ هذا لا يمنعنا من إيراد نموذجين؛ الأوّل للأستاذ أحمد حسن الزيّات، من مقال نشره في عام 1922 في «مجلّة الرسالة»:

"لا تستطيع مصر الإسلاميّة إلّا أن تكون فصلًا من كتاب المجد العربيّ؛ لأنّها لا تجد مددًا لحيويّتها، ولا سندًا لقوّتها، ولا أساسًا لثقافتها، إلّا في رسالة العرب، أمّا أن يكون لأدبها طابعه ولفنّها لونه فذلك قانون الطبيعة؛ لأنّ الآداب والفنون ملّاكها الخيال، والخيال غذاؤه الحسّ، والحسّ موضوعه البيئة، والبيئة من أعمال الطبيعة يختلف باختلافها كلّ قطر. اذكروا دائمًا أنّ الروح الّتي تنفخونها هي روح عمرو، وأنّ اللسان الّذي تنثرون به مجد مصر هو لسان مصر، وأنّ القيثار الّذي توقعون عليه ألحان النيل هو قيثار امرئ القيس، وأنّ آثار العرب المعنويّة لا تزال تغمر الصدور وتملأ السطور، وتغذّي العالم، وهي أدعى إلى الفخر، وأبقى إلى الدهر، وأجدى على الناس".

النموذج الثاني للأستاذ عمر الدسوقي، مقال نشره في «مجلّة الرسالة» في عام 1948، تحت عنوان «وامعتصماه»، وفيه يقول: " أخاف أنّنا أمّة هازلة لا تدرك الخطر الداهم، ولا تقدّر الخطب الجاسم، ولا تخبر العدوّ الظالم. هل ستمثّل مأساة الأندلس على مسرح التاريخ ثانية فيُلْقى عرب فلسطين في البحر كما أُلْقِيَ عرب غرناطة من قبل، ويومئذ نجهش بالعويل والبكاء، فيقال لنا كما قيل لأولئك: مُلك لم تحافظوا عليه؟ إنّ الأمر جدّ؛ فنصرة فلسطين لا تدعو إليها لُحْمَة القرابة والنسب، ولا صلات التاريخ والأدب، ولا حرمة الجوار ونخوة العرب فحسب، ولكن تحثّنا إليها المصلحة؛ فدفاع مصر عن فلسطين دفاع عن أخ شقيق، ودفاع عن مصلحة مشتركة، ودفاع عن كسرة الخبز وموارد الحياة وأسباب العزّة، فليكن كلّ مصريّ بل كلّ عربيّ أنّى كان محلّه معتصمًا ينادي، وفارسًا يرتجى".

 

مستقبل النثر القوميّ

إخالني بعد هذا العرض قد وضّحت موقف النثر من القوميّة العربيّة، وبيّنت الدور العظيم الّذي أدّاه في المعركة الّتي خاضتها ضدّ الاستعمار الأجنبيّ، فهو كما فعل زميله الشعر أيضًا، قد أيقظ الوعي ودفع إلى التحرّر وبعث في الأمّة روح الجهاد المقدّس؛ من أجل حرّيّتها واستقلالها، وواكب الوثبات الوطنيّة والثورات التحرّريّة في دنيا العرب، وفي مصر حين ثارت على الفرنسيّين، وحين ثارت على الإنجليز، وفي سوريا حين ثارت على الفرنسيّين وخطّت في سفر الخلود صفحات البطولة والمجد، وفي العراق حين تمرّد على الظلم وحطّم أغلال الاستعباد البريطانيّ، وفي فلسطين الّتي كافح شعبها أقوى دول الأرض وأخبث شعوب العالم ثلاثين سنة، وزرع أرض بلادها بالضحايا والشهداء، وفي الجزائر الّتي لا تزال تقدّم أبناءها في ميادين الشرف كلّ يوم، وفي كلّ مكان.

فللنشر، مقالًا كان أو خطبة، عامل من أعظم العوامل الّتي وحّدت المشاعر بين أبناء الأمّة العربيّة، وخلقت فيهم وعيًا قوميًّا ثوريًّا وطنيًّا، ظهر واضحًا في الوقوف إلى جانب مصر الحرّة، أثناء العدوان الغاشم عليها، وهو الّذي سَعَر روح النضال وأجّج جذوة الكفاح، وظلّ وفيًّا لرسالته في خدمة القوميّة العربيّة، ومحافظًا على روحها، ومشيدًا برسالتها راسمًا لها طريق التقدّم لتحقيق الآمال المنشودة.

حقّق الله آمال الأمّة العربيّة في الوحدة الشاملة والسيادة الكاملة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.